المصدر / وكالات
لا غنى يعلو على غنى الروح، ولو ملكتَ الدنيا وافتقرت روحك للحياة والمحبة والمعرفة، فأنت فقير لا تملك شيئا. هذه قناعتي التي أرددها بيني وبين نفسي كلما رأيت التفاخر، والتظاهر والتسابق يين الناس في إبراز ما يملكون. ودائما، دائما، ما أتذكر حادثة وقعت لي منذ سنوات قليلة، علمتني أن قيمة الانسان لا تتجاوز ما تحت ملابسه.
كان ذلك عندما تعرفت على سيدة من أصول إنكليزية، ابنتها بفصل ابني، ألتقيها يوميا أمام المدرسة ونحن نلاحق الطفلين بأعيننا وهما يدخلان الفصل. بمجرد أن يختفيا نلتفت إلى بعضنا، نصبح، ثم نمشي في اتجاه واحد سالكتين الطريق الذي يوصلها إلى عملها أولا، ثم عملي.
تصل هيلين إلى المؤسسة التي تعمل بها، وهي جامعة دولية حرة معروفة، تستقطب طلاب ماجستير ودكتوراه من جميع أطراف العالم. تلوح بيدها، مودعة ثم تختفي خلف الباب الزجاجي، وأواصل أنا طريقي إلى عملي. هكذا، كل يوم لسنوات طويلة. مرة سألتها عن عملها فقالت” “أنا أعمل في مؤسسة كذا” ولم تزد على ذلك. ولسنوات ظننت أن هيلين سكرتيرة أو محاسبة أو موظفة استعلامات، وأنها لا ترغب كثيرا في الإشارة إلى ذلك، حرجا أو اعتقادا منها بأنها تستحق ما هو أفضل، حتى جاء يوم فتحت فيه موقع الجامعة بحثا عن معلومات لتقرير كنت بصدد كتابته، وفوجئت بأن اسم هيلين موجود ضمن فريق المدرسين: بروفيسور دكتور هيلين ( ) أستاذ القانون الدولي، حاصلة على الدكتوراه من كمبريدج.
أخبرتها لاحقا أنني كنت أعتقد لسنوات أنها تعمل سكرتيرة بالمؤسسة الأكاديمية، فضحكت، وقالت: “لا فرق حتما”.
عرفت أنها ابنة سفير سابق، وأنها تكره البيوت الكبيرة، من ذلك النوع الذي يسكنه السفراء، لأنها تشعرها بالفراغ والوحدة والعزلة، لهذا تعيش هيلين مع طفليها في شقة من غرفتين فقط، في حي شعبي بسيط على أطراف لاهاي.
في إحدى المرات نادتني ونحن على عتبة المدرسة لتسلمني كيسا صغيرا، فتحته لأجد به مكعبات صابون من ذلك الذي يستعمل في غسالة الماعون، نظرت إليها وأنا لم أفهم، فقالت: “منحوني إياه مجانا في أحد السوبرماركات وأنا لا أملك غسالة مواعين”!
ليس هذا فقط، فهيلين لا تملك سيارة أيضا، ولا هاتفا محمولا، ولا جهاز لابتوب من النوع الرفيع، ولا تضع عطورا، ولا مساحيق، لا شيء تقريبا، إلا حقيبة يدها مربعة الشكل، التي كانت تتيح لها حمل كتب، وأوراق ودفاتر العمل.
قابلت في حياتي نماذج قليلة مماثلة لهيلين، بشر مبهرون، بسطاء، يعيشون الحياة بوصفها هبة وكنزا حقيقيا قيمته فيه. يصحون كل صباح منبهرين بعظمة وجودهم في هذا الكون، و هم قريبون من أنفسهم، عميقون وصادقون. يستهدفون قلب الأشياء مباشرة، سعداء، عارون تماما من كل ما يغلف البشر من مكتسبات ثقافات بنيت على التلقين والبرمجة الجماعية، أغنياء بأنفسهم وبما يعرفون، كأنهم ليسوا من هذا العالم. تذكرت هذه الحادثة مرة أخرى منذ يومين وأنا أكاد لا أجد طريقي بين زحمة البشر في الأسواق والمحلات والساحات، حيث العالم في سباق لاهث وتدافع رهيب على المقتنيات وأكوام الملابس والعطور والألعاب، والأجهزة الالكترونية، استعدادا لاحتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة.
كل عام وأنتم بألف خير!