المصدر / ياسر حارب
تساءلتَ مرة عن سبب استمتاعك بقراءة رواية ما، خاصة إذا ما كانت الرواية قائمة على الأحداث، كالرواية الرائعة «جزيرة الكنز»؟ السبب هو أن الدماغ لا يُفرّق بين أن تقرأ عن تجربة ما وبين أن تعيش تلك التجربة فعلاً، فالمناطق العصبية نفسها تُستثار وتنشط في الحالتين؛ ولهذا فإننا نبكي أحياناً أو نضحك عند قراءة قصة، أما العمل الأكثر استثارة لأعصاب الدماغ فهو قراءة كتاب أو نَصّ بلغة غير لغتك الأم، ففي تجربة أُجريت في السويد، قام الباحثون بفحص أدمغة مجموعتين من الطلبة: الأولى من أكاديمية القوات المسلحة السويدية للترجمة، وفيها يدرس الطلبة لغات أخرى غير لغتهم ولكن بطريقة صارمة جداً، إذ يقضون ثلاثة عشر شهراً من دون إجازات أو عطلات نهاية الأسبوع، حتى يُتقنوا اللغة الجديدة تماماً، أما المجموعة الثانية فكانوا من طلبة الطب من جامعة «أوميا» الذين يدرسون أيضاً بصرامة لكنهم لا يتعلمون لغات جديدة. وبعد ثلاثة أشهر من بداية الدراسة، تم مسح أدمغة الطلبة مرة أخرى بالرنين المغناطيسي (MRI) واكتشفوا أنه لا يوجد تغير ملحوظ في أدمغة المجموعة الثانية، أما طلبة المجموعة الأولى التي تعلمت لغة جديدة فلاحظوا أن مناطق عدة في أدمغتهم قد نَمَت بشكل ملحوظ، كمنطقة «حصان البحر» وهي المسؤولة عن الذكريات والتعلم والمشاعر، وازدادت سماكة القشرة المخية، وهي طبقة رقيقة من الأنسجة تغطي مناطق واسعة من الدماغ، كمناطق الرؤية والسمع والحركة والرائحة واللغة والتفكير وغيرها، وتتم فيها معظم عمليات المعالجة والاستدلال المنطقي.
ولهذا فإنني لستُ ضد تعلم الأطفال لغة ثانية منذ سن مبكرة، بشرط ألا تطغى اللغة الدخيلة على لغته الأم، بل إنني أشجع أطفالي على قراءة كتب إنجليزية، أولاً لأنها مكتوبة بحرفية عالية ومن قِبَل كُتّاب متخصصين، وثانياً لأنها تُحفز أدمغتهم وتُسرّع عمليات النضج فيها، إلى جانب ذلك فإن قراءة القصص والروايات للأطفال والكبار بشكل عام، تُعلّمهم الانضباط؛ فالقصة لها مُقدمة، ونَصٌّ رئيس، ثم خاتمة، إلى جانب تفرعاتها الهيكلية في كل فصل. وعندما يتعود الدماغ على القراءة بهيكلية وبنسق منظم فإنه يبدأ بتنظيم عمليات التفكير فيه لتكون هيكلية ومُسلسلة أيضاً، ويتعود على ربط الأسباب والنتائج في كل شيء في الحياة، وهذه من أساسات التفكير العقلاني والمنطقي، ولهذا فإنك كلما قرأتَ قصصاً لأطفالك أو شجعتهم على قراءتها فإنك تقوي لديهم ما يُسميه العلماء بـ«المرونة العصبية»، وتعني أن يستطيع الدماغ التعرف إلى نفسه ويستمر بإنشاء روابط عصبية في داخله طوال حياة الإنسان. وكلما زادت المرونة العصبية لدى الإنسان، زادت قدرة الدماغ على تعويض الخلايا العصبية التالفة في حالات الحوادث أو الأمراض.
الأسبوع الماضي تَوّج الشيخ محمد بن راشد أبطال القراءة في العالم العربي، ثم وقف بينهم بقامته الشامخة ليحدثهم عن طموحه بأن تعم القراءة مجتمعاتنا العربية وتعود رائدة كما كانت، وأعتقد جازماً بأن تحدي القراءة العربي هو أحد أهم المشاريع الحضارية التي مرّت على العالم العربي. إن الشيخ محمد يُعيد اليوم هندسة العقل العربي بانتشاله من براثن الجهل والتطرف والسطحية، ويُعطي الشباب أملاً بمستقبل مشرق سيتحقق حتماً بالقراءة. نحتاجُ أن نقرأ ليس من أجل أدمغتنا فقط، بل من أجل أمتنا أيضاً.
* نقلا عن "الإمارات اليوم"