المصدر / وكالات
في القرن 18 الميلادي كانت أوروبا تمر بمرحلة صعبة أقرب ما تكون إلى الخروج من عنق الزجاجة، كانت تنتقل الدول الأوروبية من مرحلة عصور القرون الوسطى المظلمة إلى عصر النهضة الحديث، و لهذا كانت هذه المرحلة خطرة و ذات أبعاد مهمة جدا. في هذه الظروف، رفضت إحدى أكثر سيدات أوروبا و أشهرهن و أجملهن أن تعيش في الغرب الأوروبي و فضلت أن ترحل إلى الشرق العربي للعيش بين العرب و انتقلت لتتزوج من بدوي من قبيلة عنزة.
من هي هذه المرأة التي فضلت العرب ؟
إنها الليدي جين دغبي. ولدت في سنة 1807 في لندن البريطانية في أسرة مرموقة و ثرية، كان والدها يدعى “هنري دغبي” و هو أميرال البحر. بذل هنري الكثير من الجهود و تعب في تربية ابنته و تدريسها، حتى نضجت الفتاة التي تمتعت بالموهبة و الإبداع و الذكاء الكبير، و استطاعت أن تتقن العديد من اللغات من بينها اللغة العربية و تم تعيينها في علم الآثار و الرسم و النحت. كانت توصف جين بأنها متحدثة بارعة تتمكن من الاستيلاء على قلوب مستمعيها و لأنها كانت من أكثر النساء جمالا في أوروبا فقد تم تعليق صورتها في صالون الجميلات في مدينة ميونيخ. لذلك كانت هذه الفتاة مطمعا للعديد من الرجال الذين تنافسوا للارتباط بها في أوروبا.
حياتها بعد الزواج من اللورد النبرة
و كان أول شخص تزوجت به اللورد النبرة الذي كان أكبر منها بعشرين سنة. و عندما تولت الملكة فيكتوريا عرش بريطانيا أصبح اللورد النبرة وزيرا للعدل ثم حاكما في الهند التي كانت من مستعمرات بريطانيا، و بسبب منصبه انشغل عن زوجته جين دغبي. لم يكن الوضع يعجب هذه الفتاة المعروفة بتمردها، فحاولت تجاوز هذه الوحدة بزيارة مكتبة جدها “لارك” لقراءة الكتب و القصص. لكن مع مرور الوقت لم يعد هذا الأمر كافيا لتخرج من الأزمة التي تعيشها فقررت أن تتعرف على عدد من الشباب و ضربت بعرض الحائط تأنيب أسرتها و زوجها لها.
لماذا قررت جين السفر ؟
كانت جين مرتبطة بعلاقة غير شرعية مع الأمير “شفازن بورك” مستشار سفارة النمسا في لندن. لكن الأمر لم يرق لأسرتها التي تدخلت لنقله إلى باريس مما زاد من عنادها فطالبت بالطلاق. استمرت دعوى الطلاق لمدة سنتين فلم تنتظر جين حتى انتقلت إلى باريس للحاق ببورك ، و هناك أسست صالونا أدبيا كان فيما بعد يرتاده أشهر الشخصيات و الأدباء الفرنسيين أمثال فيكتور هيجو و غوته و بلزاك . هذا الأخير قام بتأليف رواية بطلتها الليدي جين تحت عنوان “زنبقة الوادي”.
هل يتزوجها صديقها بورك ؟
حصلت جين على الطلاق من زوجها النبرة ثم طلبت الزواج من صديقها لكنه رفض الزواج بها و هرب مع ابنتيه غير الشرعيتين، فكانت المفاجأة قوية على الليدي جين التي أصبحت حزينة و محطمة. و بعد عدة أشهر انتقلت إلى ميونيخ بعلاقة جديدة مع الملك لودفيك الذي كان متعلقا بها، لكن هذا الأمر جعل حاشيته يحتاطون منها و يبعدونه عنها، لم يمر كثيرا من الوقت حتى تزوجت من البارون “فنجين” الذي سافرت معه إلى مقاطعته الريفية. أنجبت الليدي جين طفلين لكنها شعرت بالممل في حياتها فعادت إلى مصائبها بفضيحتها مع أمير يوناني يدعى الكونت “تيوتوكي”.
كيف واصلت حياتها مع الفضائح ؟
بعد طلاقها تزوجت من الأمير اليوناني الذي أصبح فيما بعد ملكا لليونان و أنجبا طفلا أحبته و تفرغت لتربيته و كانت سعيدة في حياتها إلا أن المصائب لا تفارقها حيث سقط الطفل من شرفة القصر على حين غفلة ثم مات، مما أدخلها في نوبة حزن و عزلة عن الناس و فتور في علاقتها بزوجها. و لم تلبث طويلا حتى عادت إلى سابق عهدها و البطل هذه المرة بطرس زعيم قبيلة كاريس الألبانية، لكن فضائح جين أصبحت شائعة فطلبت الطلاق.
كيف كانت رحلتها للشرق الأوسط ؟
سئمت جين من حياة القصور و العشاق الطامعين فقررت الرحيل إلى الشرق العربي، وبالضبط إلى مدينة تدمر في سوريا. و لكي تزور هذه المدينة و آثارها كان يجب أن يرافقها أحد الشيوخ البدو فاختارت مجول المصرب من السبعة من عنزة. سارت القافلة و كانوا يقضون الصباح في الاستكشاف و الليل في سرد القصص و الحكايات العربية و هم مجتمعون حول النار. تعرضت قافلة الليدي لهجوم من طرف قطاع الطرق لكن مجول المصرب طارد الغزو حتى هزمهم لتواصل القافلة الرحلة لتدمر. أعجبت جين بالبدوي النبيل و شجاعته و أخلاقه فقررت أن تعرض عليه الزواج بها.
وافق مجول على الزواج منها بعد تردد، ثم غادرت لليونان لإكمال أمور الطلاق و جمعت ثروتها و عادت لحمص لتتزوج به وسط احتفال بدوي. عاشت جين كأي بدوية تحلب الناقة و تكنس خيمة زوجها. بنت في دمشق قصرا لها كانت تقضي فيه مع زوجها فترة الشتاء و الخريف و في الصيف و الربيع تعود لحياة البادية. لم تعتنق جين الإسلام و لم يكن زوجها يضغط عليها فقد كانت تزور الكنائس و تلتقي رجال الدين المسيحيين و استقبلت في قصرها العديد من الشخصيات الكبيرة رفقة زوجها. تغير سلوك دغبي عما كانت عليه في أوروبا و أصبحت امرأة مخلصة لزوجها رغم محاولات لرجال السياسة التقرب منها و قد لخصت جين ذلك في مذكراتها بقولها:
“لم يحبني مجول لجمالي فقد عرفني حين ذوى جمالي وفارقني الشباب ولم يحبني لوفرة مالي وماذا يستفيد منه وهو العربي الذي يأنف أن يمد يده إلى مال زوجته، ولم يحبني لعراقة نسبي فهو لا شك يعتقد أنه أشرف مني نسبا، وربما أعتقد أن زواجه مني تضحية كبرى، لأنه لا شيء يضاهي اعتزاز هؤلاء العرب بأنسابهم، وإنما أحبني مجول لشخصي فقط، وهذا لعمري أسمى أنواع الحب التي عرفتها، وقد جعلني حبه النبيل هذا أحترم شخصي وأقدسه. شخصي الذي يحبه مجول، فلا أتورط بما كنت أتورط به في الماضي”.
أصيبت جين سنة 1881 بداء الكوليرا بعد أن اجتاح دمشق و رفض زوجها مغادرة المدينة فبقيت معه، فتوفيت و شيع جثمانها من طرف السلك الدبلوماسي في الكنيسة لكن مجول غادر التراتيل لكونه مسلم، و شوهد في أكثر من مرة باكيا عند قبرها.