المصدر / بيسان الشيخ
أبى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلا أن يختتم عهده في الهيئة الأممية بخطوة تكرس سنوات أدائه المتعثر فيها، تمثلت في تكريم سفير سورية الدائم بشار الجعفري ومنحه وساماً تقديرياً الى جانب 10 سفراء آخرين قضوا أكثر من 10 سنوات في مناصبهم.
وإذ تزامن ذلك الاحتفال مع واحدة من أشرس حملات القصف والتجويع التي ينفذها النظام السوري وحليفه الروسي على مناطق واسعة من سورية، في حق المدنيين تحديداً، تبين أن بان كي مون لم يخصّ سفير نظام الأسد بأي معاملة تفضيلية بين زملائه. فبان معجب على ما يبدو أيما إعجاب بنهج سياسي متكامل ينتمي إليه الجعفري، ويتخطاه كشخصية جدلية. إنه نهج ينسحب على محور دولي، يمثله إلى جانب الجعفري، كل من السفيرين المكرّمين أيضاً الروسي والفنزويلي. وربما، لو أن السفير الإيراني أمضى فترة كافية في منصبه، لكان الأمين العام ضمه أيضاً إلى تلك النخبة من الديبلوماسيين.
فبالنظر إلى أداء الحكومات أو بالأحرى الأنظمة التي يمثلها هؤلاء السفراء، أي روسيا، وسورية وفنزويلا سواء على صعيد السياسة الداخلية أو الخارجية، لا يمكن تفسير التكريم إلا بصفته تكريماً لمنظومة قيم في الحكم والإدارة والسياسة الخارجية، يفترض أن الأمم المتحدة قامت أصلاً لردعها والتصدي لها.
بالحد الأدنى من الجهد، يمكن رصد حال تلك البلدان وما آلت إليه في العقدين الماضيين وليس العشرية الأخيرة فقط، لتلمّس حجم الكوارث التي ألمّت بشعوب روسيا وسورية وفنزويلا، وبعدد من البلدان المجاورة المتأثرة بسياساتها الخارجية السافرة.
داخلياً، تشترك تلك الأنظمة بأنها كرست مبدأ التوريث السياسي أو العائلي، موصدة الباب أمام أي احتمال لمداورة السلطة وضاربة عرض الحائط بمبدأ أممي أساسي يصون (أو يفترض أن يصون) حق الشعوب في تقرير مصيرها. وسخّرت تلك الأنظمة مقدرات بلدانها البشرية والطبيعية، وأفرغت خزائن المال العام ومخزونها من النفط والمعادن والثروات لخدمة حلقات فساد ضيقة تمثلها السلطة والمقربون منها.
وإلى ذلك، قمعت الحريات العامة والخاصة، وأسكتت الصحافة والإعلام، ومارست انتهاكات فاضحة بحق المواطنين من إفقار وتجويع وتهجير لم تسثن معها الاغتيالات والاختفاءات القسرية. وذلك ليس سوى غيض من فيض ما وثقته ولا تزال توثقه منظمات حقوقية دولية.
وخارجياً، يكفي استعراض سريع لما ألمّ بالمحيط المباشر وغير المباشر لتلك الدول من تعثر سياسي واقتصادي وحروب وانقسامات وقيام شبكات تهريب ومافيا سلاح ومخدرات، وغير ذلك لنتلمس حجم كارثة أكبر. فمن القرم وأوكرانيا مروراً بالعراق ولبنان، وصولاً إلى كولومبيا وكوبا، لم تفعل تلك الأنظمة إلا أن فككت بلداناً أضعف منها أو استثمرت في أزماتها فغذتها بالمال والسلاح والإرهاب (العلماني أو الديني)، ثم جعلتها ورقة تفاوض «إقليمي» بيدها، معززة بالتالي دورها كـ «محاور دولي» و «شريك لا يمكن الاستغناء عنه في فض النزاعات».
وأكثر من ذلك، ما يجمع فعلياً تلك البلدان، أعمق وأبعد من فساد سياسي وحب سيطرة على الجوار وسوق سلاح مربح. إنه إرث أيديولوجي راسخ من العداء لـ «النظام العالمي» ومؤسساته وقوانينه ومعايير الحكم فيه، لا بل احتقار قيمه في الديموقراطية وحقوق الإنسان وتداول السلطة إلخ...
إنه ببساطة ما يسمى محلياً وشعبياً «محور الممانعة» الذي انضم إليه الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز، ومده بالسلاح والمال وضمن له طرق التهريب، ثم أودع أمانته في يد وريثه الحالي نيكولاس مادورو. فما عاد سراً حجم التبادل وخدمات تبييض الأموال بين فنزويلا وإيران والتي تمر عبر مطارات الوسطاء الإقليميين.
ذاك هو النهج الذي سلّمه بان كي مون ثلاثة أوسمة، لا وساماً واحداً قبل مغادرة منصبه. نهج ما عاد يكفي اليوم تشريحه وتفسيره من منظور انهيار نظام القطبين بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. ذاك أن الزلزال الذي أحدثه هذا التفكك ولا تزال ارتداداته مستمرة حتى اليوم، عمقته وزادت أضراره منظمة أممية نخرها الفساد وأصابها الترهل.
وليس التعبير الدائم عن القلق الذي طبع عهد بان كي مون إلى حد السخرية والسأم، إلا وجهاً ملموساً من سياسة الحياد والنأي بالنفس التي اعتمدتها المنظمة حيال أكبر استحقاق يواجه المجتمع الدولي وهو الحرب السورية. اعتمد بان كي مون سياسة القلق إلى أن جاءت اللحظة المناسبة لإعلانه موقفه الرسمي الذي ينقلب على أبسط المبادئ المؤسسة للأمم المتحدة في 1945.
الآمال التي تعقد اليوم على الأمين العام الجديد، أنطونيو غوتيريس، تأتي تحديداً من خبرته الطويلة في ملف إنساني شائك، سمي «أكبر كارثة تواجه العالم منذ الحرب العالمية الثانية»، ألا وهو ملف اللجوء. ويترتب على غوتيريس، المقبل من حقل النشاط المدني والحقوقي، والذي شغل منصب رئيس الهيئة العليا للاجئين لعشر سنوات، أن يبدد قلق سلفه علماً أن روسيا حاولت عرقلة وصوله وأوشكت أن تصوت ضده، روسيا نفسها التي ساهمت آلتها العسكرية في خلق تلك الأزمة ومفاقمتها. ولا يبدو أن ثمة ما سيمنعها وحلفاءها من مواصلة نهج استحقت عليه وسام شرف أممياً.
* نقلا عن "الحياة"