المصدر / وكالات
جوامع الكلم في القرآن الكريم
عبد العزيز بن صالح العسكر | 13/1/1437 هـ
قال علماء اللغة العربية: البلاغة الإيجاز، فقمة البلاغة وذروتها الإيجاز والاختصار الذي به تؤدى المعاني ويتوصل إلى المقصود، وهو أبلغ وأحب إلى المتكلم والسامع وأحفظ للوقت والجهد من الإطناب والإطالة.. ولو لم يكن من سلبيات الإطالة وأضرارها إلا الملل لكفى. والإيجاز في مواضعه جميل جداً وهو كما أسلفنا قمّة البلاغة؛ ولذلك ورد في القرآن الكريم وتكرر كثيراً وآتى ثماره في النفوس على اختلاف إدراكها ومشاربها.
وتعدّدت أسماء الإيجاز في البلاغة العربية ومعانيها متقاربة: فالإيجاز والاختصار وجوامع الكلم والعبارة اليسيرة يقوم بعضها مقام بعض في كتب البلاغة والتفسير لتقارب معانيها. وفي هذا الموضوع نقف مع مواضع من الإيجاز في القرآن الكريم بلغت قمة الجمال والقوة والإعجاز عسى أن نفيد منها أكبر الفائدة وأجلّها.
وأول هذه المواضع الاستغناء عن بعض الأدوات اللغوية ومنها أداة النداء وذلك مثل قوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف:29]، فيوسف منادى مبني على الضم والتقدير: يا يوسف.
وثاني المواضع الألفاظ الجامعة مثل كلمة الاستقامة، ووردت في القرآن الكريم كثيراً؛ من ذلك قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13]. وقال المفسرون: ورد في صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: "قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك وفي رواية غيرك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم" وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: "ثم استقاموا، لم يشركوا بالله شيئاً".
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال على المنبر وهو يخطب: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} فقال: "استقاموا والله على الطريقة لطاعته ثم لم يروغوا روغان الثعلب". وقال عثمان رضي الله عنه: "ثم أخلصوا العمل لله" وقال علي رضي الله عنه: "ثم أدوا الفرائض". وقال الحسن البصري: "استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته". وقال مجاهد وعكرمة: "استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى ماتوا". وقال سفيان الثوري: "عملوا على وفاق ما قالوا". وقال الربيع: "أعرضوا عما سوى الله". وقال الفضيل بن عياض: "زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية"(1).
مما سبق من أقوال الصحابة والتابعين يتضح أن معنى (استقاموا) يعني الفقه في دين الله وفعل أوامره واجتناب نواهيه، ومن ذلك البعد عن الشرك في القول والعمل. فهذا اللفظ لفظ جامع وقد تكرر في القرآن الكريم عشر مرات بألفاظ: استقاموا، ويستقيم، واستقم، واستقيما، واستقيموا. ونفهم من هذه الآيات أن من عبد غير الله لم يستقم، وأن من قال بلسانه آمنت ولم يفعل أوامر الله ويجتنب نواهيه فإنه لم يستقم.. وأنّ من ارتد عن دينه ورجع إلى الفسق والمعاصي وموالاة الكفار لم يستقيم. نسأل الله الثبات على دينه وأن لا يزغ قولبنا بعد إذ هدانا. كما نسأله الفقه في الدين والعون على الطاعة والعبادة.
ومن الألفاظ الجامعة في القرآن الكريم لفظ (إقامة الصلاة). وما أروع وأجمل وأبلغ لغة القرآن وأسلوبه وألفاظه. فإنه لم يرد في القرآن الكريم لفظ (أداء) الصلاة ولم يرد فعل الصلاة إلا مقروناً بلفظ (إقامة) فما الفرق بين الأداء والإقامة؟ ولم عبّر بالإقامة دون الأداء؟ إن الأداء تنفيذ العمل بأي حال كانت، فالمسيء في صلاته أدى الصلاة ولكنه لم يُقمها، إنه قام بالحركات، فقد قام وركع وسجد وجلس وقرأ فهذا كله أداء، ومع ذلك قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "اذهب فصلّ فإنك لم تُصَلِّ" نعم إنه لم يصل لأنه لم يقم الصلاة، فما الإقامة؟! إنّ الإقامة تعني: الطمأنينة، كما تعني أداء الشعائر المطلوبة في الصلاة بأركانها وواجباتها وسننها وبخشوع وحضور قلب، فهذه هي الإقامة التي أرشد إليها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأخبر بها المسيء في صلاته.
إنّ تلك الصلاة المقامة هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر وهي صلاة المسلمين التي ترفع أجر صاحبها وتقربه من ربه سبحانه وتعالى وتكفر بها السيئات. إنه لفظ (أقم) و(أقيموا) و(أقمن) و(أقام) و(أقاموا) و(أقمت) و(أقمتم) و(يقيموا) و(يقيمون) تكررت هذه الألفاظ في القرآن الكريم أربعين مرة، ومنها قول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت:45]، وقول الله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنعام:72]، وقول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56]، وقول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً} [الأحزاب:33].
وثالث مواضع الإيجاز في القرآن الكريم الذي نتحدث عنه الآن هو: صور من الحوار البليغ سواء كان حواراً منطوقاً أو مكتوباً؛ فمن أمثلة الحوار المنطوق قول الله تعالى: {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل:33]، وقول الله تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم:30-32].
هذه رسالة بليغة تحمل معاني كثيرة وكبيرة، إنها رسالة سليمان عليه السلام إلى بلقيس ملكة اليمن، لا تستكبروا وترفعوا نفوسكم علي وعلى ديني، واعلموا أن العقل والصواب والحكمة أن تدخلوا في ديني وتأتوني مسلمين، وهي تحمل – والله تعالى أعلم – التهديد لهم إن هم لم يستجيبوا فإن عقابهم صارم وشديد وسوف لن يحمدوا العاقبة.. كل هذه المعاني حملتها خمس كلمات بعد (البسملة)، فما أبلغ وأجود وأقوى أسلوب ولغة القرآن الكريم.
ورابع المواضع التي يتضح فيها الإيجاز والإعجاز في القرآن مما نود الإشارة إليه هو: الجواب المقنع الذي ينهي جدل المعاندين والجاحدين، فإن من خلق الله من لا يستجيب ولا يؤمن بالقرآن الكريم وآياته الكريمة نصاً، ولذلك يسوق القرآن الكريم أدلة عقلية رداً على الكفار قديماً وحديثاً وبتلك الأدلة جادل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكفار وألجمهم الحجة وردّ عليهم رداً قوياً مسكتاً، وبمثل ذلك يمكن أن ينهي جدال الكفار والملحدين في زماننا وما يأتي بعده إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
ونضرب على ذلك مثالاً واحداً، فقضية البعث بعد الموت كانت ولا زالت محل شك الكفار والملحدين فأراد الله تعالى أن يعطي أولئك المجادلين درساً بليغاً ويسكت جدالهم بحجة بالغة وجاءت آيات القرآن الكريم تحمل ذلك الدرس وتلك الحجة وتكررت في مواضع من القرآن الكريم؛ منها قول الله تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:51]، وقول الله تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم:66-67]، وقول الله تعالى وهو أبلغ وأقوى وأصرح: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم:27]. وفي حوار سريع قصير بليغ يذكر القرآن الكريم هذه الحقيقة لتنهي حجة المعارضين وخصومة الجاحدين يقول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيم} [يس:77-79].
والآيات الأربع في آخر السورة تكمل هذا المعنى وتؤكده. وقد ذكر المفسرون في سبب نزولها أن عبد الله بن أبي أو العاص بن وائل السهمي أو أبي بن خلف الجمحي أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل فقال: "يا محمد أترى أن الله يحيي هذا بعدما رمَّ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم ويبعثك الله ويدخلك النار" فنزلت هذه الآية.
إن أكبر دليل على البعث هو الخلق أول مرة؛ فالصانع الذي ابتكر جهازاً أو آلة هل يصعب عليه أن يصلحها إذا تعطلت؛ بل هل يصعب عليه أن يبتكر نسخة أخرى وقد علم أسرار الجهاز وأجزاءه؟! تعالى الله وتقدس عن الشبيه والمثيل.