المصدر / وكالات - هيا
لا تنتهي حكايات الرعب بالنسبة لمن كان معتقلاً في سجون النظام السوري، حتى لو مرّت سنوات على خروجه من خلف القضبان.
فما يراه الإنسان هناك لا تمحوه آثار السنين، هذا إن بقي حيّا وسنحت له الفرصة أن يتذكر.
أما من تعثّر حظة بالمكوث في سيئ الذكر من تلك السجون، فيطبق المثل القائل "الداخل مفقود والخارج مولود"، وذلك لشناعة ما قد يراه هناك.
ولعل أسوأ معتقلات النظام السوري، "سجن صيدنايا"، تلك المنطقة التي تحولت من أجمل بقاع الاصطياف في البلاد إلى أسوأ ما قد يمر بذكريات من يدخلها معتقلاً.
جثث بشر مغطاة بالملح
فقد روى ناج من هناك فظاعة ما عاش بعدما زجّ به أحد الحراس في يوم من أيام شتاء عام 2017، إلى داخل غرفة لم يرها من قبل.
وبينما تفاجأ "عبدو" الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه الحقيقي خوفا على عائلته التي مازالت في مناطق سيطرة النظام، بشيء لطالما افتقده ألا وهو "الملح" الذي تمنعه السلطات تماما عن طعام المساجين، التقى بما لا يخطر على بال.
وتجمّد الرجل رعبا عندما تعثّر بجثة نحيلة ملقاة على الملح وإلى جانبها جثتان أخريان، لتكون هذه التجربة "الأكثر رعباً" في حياته في سجن يصفه معتقلون سابقون بـ"القبر" و"معسكر الموت" و"السرطان".
"قلبي مات"
ووصف الرجل أن ما شاهداه جعله يتشبث بمكانه غير قادر على الحركة، خصوصا بعدما تأكد من وجود أكثر من جثّة.
وقال: "كان هذا أصعب ما رأيته في صيدنايا جراء الشعور الذي عشته ظناً بأن عمري انتهى هنا".
أما عن الغرفة فوصفها بأنها مستطيلة، من 6 أمتار بالعرض و7 أو 8 بالطول، أحد جدرانها من الحديد الأسود يتوسطه باب حديدي. وتقع في الطابق الأول من المبنى المعروف بالأحمر، وهو عبارة عن قسم مركزي تتفرع منه 3 أجنحة.
لم يتنفس عبدو الصعداء سوى حين عاد السجان، ووضعه في سيارة نقل السجناء، وتأكد أنه بات في طريقه إلى المحكمة.
وأثناء خروجه من الغرفة، رأى قرب الباب أكياس جثث سوداء فارغة مكدسة، هي ذاتها الأكياس التي نقل فيها في أحد الأيام، وبأمر من الحراس، جثث معتقلين.
ويقول عبدو الذي أفرج عنه في 2020، "في صيدنايا، قلبي مات. لم يعد شيء يؤثر بي. حتى وإن قال لي أحدهم إن شقيقي مات، بات الأمر بالنسبة لي عادياً".
ويضيف "جراء الموت والعذاب والضرب الذي رأيته، كل شيء بات عادياً".
جثث كالمومياوات
أما معتصم عبد الساتر البالغ من العمر 42 عاماً، فقد روى تجربة مشابهة في غرفة مختلفة تقع في الجناح نفسه من الطابق الأول من المبنى الأحمر.
ووصف غرفة بعرض 4 أمتار وطول 5 أمتار، ولا يوجد فيها حمام، وبينما ناداه السجان لإطلاق سراحه فوجئ بطلب هذا الأخير منه الدخول إلى غرفة لم يرها سابقاً.
ويقول من منزله في الريحانية في جنوب تركيا، إن قدميه غرقتا في مادة خشنة، فتأكد أنه ملح بعمق 20 إلى 30 سنتمتراً.
وبعدما تذوّق معتصم بعض الملح المحروم منه في السجن، سرعان ما وقعت عيناه على 4 أو 5 جثث ملقاة في المكان.
ويقول "شعور لا يوصف، أصعب من لحظة الاعتقال. قلت لنفسي سيعدمونني الآن ويضعونني بينهم... أنا أساساً أشبههم".
كما أكد أن الجثث كانت تشبه المومياوات، وكأنها محنطة، وكانت عبارة عن هيكل عظمي مكسوٍ باللحم يمكن أن يتفكّك في أي لحظة.
بقي معتصم في الغرفة ثلاث إلى أربع ساعات إلى أن تم إطلاق سراحه.
متحف يروي ذاكرة بلد
يشار إلى أن رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا حددت في تقرير ستنشره قريباً للمرة الأولى "غرف الملح".
وقالت إنها بمثابة قاعات لحفظ الجثث بدأ استخدامها خلال سنوات النزاع الذي اندلع في العام 2011، مع ارتفاع أعداد الموتى داخل السجن.
وبما أن سجن صيدنايا يخلو من برادات لحفظ جثث معتقلين يسقطون بشكل شبه يومي فيه جراء التعذيب أو ظروف الاعتقال السيئة، لجأت إدارة السجن على ما يبدو إلى الملح الذي يؤخّر عملية التحلّل.
وبناء على تقرير الرابطة ومقابلات أجرتها وكالة فرانس برس مع معتقلين سابقين، تبين أن في سجن صيدنايا العسكري "غرفتي ملح" على الأقل تُوضع فيهما الجثث حتى يحين وقت نقلها، فيما يغيب الملح تماماً عن كميات الطعام القليلة التي يحظى بها المعتقلون، الأرجح لإضعافهم جسدياً.
إلى ذلك، يروي الناجون من صيدنايا وسجون النظام السوري وأفرعته الأمنية حكايات رعب لا تنتهي، وباتت رواياتهم جزءاً رئيسياً من تحقيقات تجري في دول غربية حول جرائم الحرب المرتكبة في سوريا.
كما تقدّر الرابطة أن 30 ألف شخص دخلوا إلى سجن صيدنايا منذ اندلاع النزاع في العام 2011، وقد أفرج عن 6 آلاف منهم فقط، فيما يُعتبر معظم الباقين في حكم المفقودين، خصوصا أنه نادراً ما يُبلّغ الأهالي بوفاة أبنائهم، وإن تمكنوا من الحصول على شهادات وفاة لهم، فإنهم لا يتسلمون جثثهم.
وبرأي الرابطة: "صيدنايا هو ذاكرة بلد، لا يجب إغلاقه بل يجب تحويله إلى متحف مثل معسكر أوشفيتز".